المطبخ التركي…رحلة لا نهاية لها
يمتد تاريخ تركيا إلى أكثر من ألف عام، وهو ما أتاح لمطبخها أن يتطور ويتأثر بكل المعطيات التي تركت أثرها فيه. أضف إلى هذا الطبيعة الجغرافية العجيبة التي جمعت بين مناخات آسيا وأوروبا وإفريقيا، وهو ما أثرى المطبخ التركي بعناصر غذائية متعددة يصعب حصرها. وكان على المطبخ التركي أن يتعامل معها ويبدع في تحويلها إلى قطع فنية تعكس الوفرة والحضارة والإبداع.
أما العنصر الثالث والذي كان له أكبر الأثر في المطبخ التركي فهو الإرث الضخم والمميز الذي أوجده وخلفه مطبخ السلطان العثماني، والذي لابد من التركيز عليه هنا وبشكل خاص.
مطبخ السلطان
مما لا شك فيه أن عهد السلاطين العثمانيين يشكل مرحلة مهمة، وأثر تأثيرًا بالغًا على المطبخ التركي. يتضح هذا التأثير عند زيارتنا لقصر «توبكابي» في إسطنبول، حيث المساحات الهائلة التي خصصت للمطبخ الذي توزع على عدة مبان منفصلة بنيت تحت 10 قباب.
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن ما لا يقل عن 1300 طاه عاشوا في قصر «توبكابي» في القرن السابع عشر، وتخصص كل طاه منهم في مجال معين من الطهي كصنع الأرز بيلاف أو الحلويات أو المربيات أو اللحوم أو الأسماك أو الخضار أو الأجبان أو الخبز أو الفطائر وهكذا.
وكان على هؤلاء الطهاه إرضاء وإشباع ما يزيد على 10 آلاف شخص يوميًا من قاطني القصر، أو أولئك المقربين الذين يعيشون في المدينة وتشملهم المكرمة السلطانية.
أما نقابات الصناع والحرفيين فقد كان عليها توفير أجود البضائع للقصر وأهله، وهو ما جعل الجزارين وصيادي السمك والمزارعين والرعاة وتجار التوابل يعيشون مرحلة مزدهرة من الرخاء دفعتهم إلى الإتقان في مجال عملهم.
وكالعادة، قامت الأسر العريقة والثرية في أنحاء البلاد التركية بتقليد مطبخ القصر وأطباقه، وهو ما جعل هذه الوجبات معروفة في كل أركان البلد. وكان من عادة القصر في تلك الفترة إقامة ولائم عامرة بالطيبات طوال شهر رمضان، وكان كل من يمر في الطريق يملك حق الدخول والتمتع بتلك الخيرات، وهو ما جعل هذه الأطباق معروفة حتى عند أبسط الناس وأقلهم دخلاً، خصوصًا أن ثراء الطبيعة ووفرة خيراتها لم يشكلا عائقًا أمام البسطاء في تركيا من الحصول على كل أنواع الغذاء من لحوم وخضار وفواكه وغيرها.
امتاز عصر السلاطين العثمانيين إضافة إلى الرخاء بالرومانسية الغريبة، وقد عكست أسماء أطباق مطبخ السلاطين تلك الرومانسية، فتجد أطباقًا أطلق عليها اسم «إمام بايلدي» والذي يعني حرفيًا «الإمام المنتشي». أما طبق بهجة السلطان فهو يفسر معناه عندما تتذوقه وتستلذ بمذاقه. وهناك الأطباق التي أطلق عليها أسماء معينة إرضاء لسيدات القصر مثل «الشفاه الحلوة» «عيون الهانم» «أصابع الهوانم» و«زند الست».
عادات الأكل
لا يزال الشعب التركي حريصًا على الاجتماع حول المائدة لتناول الوجبات الرئيسة يوميًا. وعادة ما تكون وجبة الإفطار «قاهفالتي» على الخبز والجبن والزيتون والشاي الساخن.
أما وجبتا الغداء والعشاء فتتكونان من أطباق السلطات التي يطلق عليها اسم «مزة» بالإضافة إلى طبق رئيس من اللحوم أو الدجاج أو الأسماك بالإضافة طبعًا إلى الخبز والأرز. ويجتمع أفراد الأسرة حول المائدة مرحبين بكل من يصادف مروره عليهم في تلك اللحظة من الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران الذين ليسوا بحاجة إلى دعوة مسبقة للتمتع بالوجبة.
أما إذا أقام صاحب الدار وليمة ودعا إليها الآخرين مسبقًا فإنه يقدم مائدة زاخرة بأطباق البوريك (العجين المحشو باللحم أو الأسماك أو الجبن) والسلطات التي تعد من البقول والخضار وتخلط بزيت الزيتون الذي يبقيها صالحة للاستعمال في وقت إخراجها من الثلاجة. وفي مثل هذه المناسبات تقدم الشوربة أولاً، ثم يأتي دور السلطات التي يقدم معها اللحم المشوي أو الدجاج، بالإضافة إلى الأطباق التي يختلط فيها اللحم أو الدجاج أو الأسماك مع بعض الخضار المناسبة. وفي ختام الوليمة تقدم الفاكهة وأطباق الحلو التي يلحقها بعد ذلك شرب القهوة التركية المشهورة.
وللنساء في تركيا لقاءاتهن الخاصة، إذ تجتمع الجارات والقريبات والزميلات دوريًا حول مائدة يتم الإعداد لها مسبقًا، ويقدم خلالها ما لا يقل عن (دزينة) من أنواع الكعك، ومثلها من الفطائر الحلوة أو المالحة، بالإضافة إلى أطباق البوريك المتعددة وطبق الدولما المعروف. أما الرجال فعادة ما يلتقون في المقاهي التي لا ترتادها النساء. في هذه المقاهي يتبادل الرجال الحديث ولعب الشطرنج أو الطاولة وشرب الشاي والقهوة طبعًا. ولا يعرف الترك عادة إحضار الضيف لطبق معين من منزله إذ إن مهمة توفير الطعام للضيوف هي مسؤولية صاحب الدعوة وحده.
الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو عندما تتفق عدة أسر قريبة أو صديقة على قضاء يوم نزهة في الريف والخلاء، والتي يطلق عليها اسم «صفا»، حينها يتم تقسيم المهمات والمسؤوليات بين الأسر والتي تتكفل بإحضار السلطات والأرز والخبز والحلويات والمشروبات والأجبان والفواكه، بينما يشترك الجميع في تكاليف اللحوم والدجاج والأسماك التي يتم شيّها على الجمر في مكان النزهة أو «الصفا».
حمام الهنا
اسم صفا أيضًا كان يطلق على الرحلة الأسبوعية إلى الحمام التركي العام، حيث كان الناس يقضون كل ساعات الصباح هناك، ولهذا كانوا يعدون كميات كبيرة من الطعام قبل الموعد بيوم، ويحمل مع الصابون المعطر والملابس النظيفة في عربات تجرها الخيول. وعلى الرغم من أن الحياة العصرية جعلت الناس في تركيا تكتفي بيوم واحد في السنة لمثل هذه الرحلة الاستحمامية إلا أنهم لا يزالون يستعدون لها مسبقًا بكل ما يطيب لهم.
هنيئًا مريئًا
يقول الشاعر التركي عبدالحق سناس: «لا تلغي طبق الطعام المقدم لك متعللاً بأنه مجرد طعام، فهذا الطبق المبارك وحده يمثل حضارة كاملة».
ولو أنك سألت شخصًا تركيًا عن كيفية طهو الباذنجان مثلاً فإنك حتمًا ستوقعه في حيرة. فالباذنجان مثل كل العناصر الغذائية الأخرى في المطبخ التركي أتيحت له فرصة تزيد على ألف عام لكي يتطور ويدخل في تركيبة أطباق لا يمكن حصرها.
والمطبخ التركي على الرغم من ثرائه لا يتميز بطبق معين أو عنصر غذائي معين كما نميز المطبخ الإيطالي بمكرونته ومعجناته أو المطبخ الفرنسي بصلصاته.
لكن المطبخ التركي يتمحور في أساسه حول الأرز والقمح والخضار واللحوم.
فتركيا مثلاً هي إحدى الدول السبع التي يطلق عليها دوليًا اسم «سلة خبز العالم» حيث يغطي ما تنتجه من قمح كل حاجاتها وتصدر الباقي أو الفائض إلى أنحاء العالم المختلفة. وفرة القمح جعلت الطحين أحد أهم العناصر في المطبخ التركي، ومنه يُعد أنواع الخبز وأشهرها «الايكمك» وهو خبز أبيض عادي «والبايد» وهو قرص الخبز المسطح و«السميت» وهو حلقة الخبز المرشوشة بالسمسم.
ومن الطحين تصنع عجينة البوريك والتي لابد لأي وجبة تركية عادية أن تحتوي على خمسة أنواع مختلفة منه على الأقل.
أما الأرز فيطهى بطريقة «البيلاف» التي تستعمل أيضًا في طهو بيلاف القمح. وفي هذه الحالة يطهى الأرز أو القمح المجروش مع البصل والثوم والطماطم والفلفل الأخضر وزيت الزيتون ويسقى بمرق اللحم الصافي. أما إذا أضيف للطبق اللحوم أو ثمار البحر والخضار والدجاج في أثناء الطهو فإنه يتحول إلى وجبة رئيسية متكاملة.
السلطات التركية والتي يطلق عليها اسم «مزة» أحيانًا لا حصر لها ولأنواعها، إذ يدخل في تركيبها الباذنجان أو الكوسة أو الطماطم والخيار والزيتون أو البقول والسبانخ والأجبان والكبدة، هذا بالإضافة إلى الزبادي والقواقع والأسماك المخللة أو المشوية بورق العنب. تجهز هذه السلطات بزيت الزيتون والثوم وهو ما يجعلها صالحة للتقديم وهي ساخنة أو باردة أو بدرجة حرارة الغرفة.
شاورما ومشويات
تعرف الشاورما في دول العالم تحت مسميات مختلفة، إلا أنها تسمى بـ«كباب دونار» في تركيا، حيث موطنها الأصلي، وكعادة الأتراك في الشيّ فإنهم يختارون أفضل قطع اللحم لمثل هذا الكباب، ثم يتم تتبيله لمدة ساعات قبل شيّه حتى لا يجف نسيجه أو يقسو نتيجة تعرضه لحرارة الجمر أو الشواية.
وتشمل قائمة المشاوي التركية جميع أنواع البروتين الحيواني، فهناك الكباب الذي يصنع من اللحوم المفرومة أو الدجاج أو الأسماك. وعادة ما يلف السردين الصغير بورق العنب ويشوى ويقدم ساخنًا كمقبلات ويطلق عليه اسم «سارد الياسارماسي». أما الدجاج فيصب فوقه خليط من زيت الجوز وفلفل البابريكا والذي يكسب الطبق مذاقًا لا يمكن مقاومته أو وجوده في أي مطبخ آخر.
ولا يميل الترك إلى استعمال التوابل أو الأعشاب العطرية بكثرة في أطباقهم حتى لا تطغى نكهتها على نكهة العناصر الرئيسية للطبق ومذاقها. ومع هذا فهم يستخدمون الفلفل الأسود والقرفة وخلط البهار (allspice) والبابريكا، ويستخدمون أيضًا النعناع والبقدونس والشبت وورق الغار والصعتر وإن كان بشكل منفرد وبكميات قليلة، إذ إنه من النادر أن تجد طبقًا يجمع بين نوعين من تلك الأعشاب في الوقت نفسه.
النهايات الحلوة
تعتبر البوظة (الدوندرما) والدونات المقلية التغير الوحيد الذي نجح في تحقيقه أتاتورك الذي حاول تغريب المطبخ التركي كما هي الحال مع كل شيء آخر في تركيا في بدايات القرن الواحد والعشرين.
ولاتشكل البوظة على تنوعها إلا جزءًا من قائمة طويلة من الحلويات تشمل أيضًا البقلاوة بأنوعها والبوريك المحشي بالقشدة أو المكسرات، وهناك الأطباق الرومانسية التي ذكرناها في الجزء المخصص لمطبخ السلطان، والتي يتكون بعضها من عجين «الشو» الذي يخبز أو يقلى ويحشى بالكريمة ثم يغرق بالقطر السكري.
وتقدم هذه الأطباق الحلوة مع القهوة التركية أو الشاي بعد الوجبات أو عند استقبال الضيوف.
وفي ختام هذه الرحلة نؤكد أن هذه الدراسة لا يمكن لها أن توفي المطبخ التركي العريق حقه. هذا المطبخ لا يكتمل البحث فيه إلا بتجربة كل طبق من أطباقه وتذوقه، وهذا ما تركناه للقارئ العزيز الذي نتمنى أن تكون رحلتنا هذه قد أغرته بتجربة روائع هذا المطبخ الخيالي بحق.